[ هذه المقالة هي الثالثة في سلسلة مقالات. يمكن قراءة الجزء الأول هنا والجزء الثاني هنا]
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
م.درويش – لاعب النرد
إذا كانت "أعظم خيانة يرتكبها الكاتب أن يصوغ الحقيقة الصعبة في عبارة رخيصة"فـ"الشاعر مأخوذ بكل علم ... لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل ... وإذا كان الشاعر (مطبوعاً) لا علم له ولا رواية ضل واهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه لضعف آلته".
فإذا كانت "الرؤيا" و"الكشف" و"الحفر" في النفس والأشياء من ملامح الشعر الحديث، بعد تجاوزه –دون إفراط- الإطراب والغنائية بمفهومهما الحسي، أدركنا مدى الحاجة الشعرية للاساليب الرمزية والأخيلة الشهرية المنطلقة الغرائبية والترميز المكثف والحر والتخييل في البنية اللغوية والشعرية، وهو نتيجة لـ"لغة التخيل" الأنثوية الجذر أكثر مما تفعله "لغة الإخبار" الذكورية الجذر، فلغة التخيل أقرب ما تكون للغة "الكشف" بالمصطلح الصوفي ، تلك التي تحمل معاناة البحث والتساؤل في الآفاق الغريبة حتى عليها وفيها، لغة تساءل الذات والموضوع معاً، تحفر في الواقع من أجل قراءة تأملية تجاوز موصوفاته المدركة أولياً، فتدرك علاقاته المباشرة وغير المباشرة، في تأثير "مرآوي" لنزوع الوجدان الصوفي في حالة "الإستجلاء" – إستجلاء الكون- إلى "الفناء".
وهو تماما معناه مالارميه بقوله للمصور ديجا: "عزيزي ديجا، إننا لا نصنع من الأفكار شعرا ، بل من الكلمات". فقد كان ديجا يجد صعوبة في كتابة الشعر على هامش فن التصوير (وللثنائية هاهنا دلالتها) الذي يحترفه، فوجه سؤال إلى مالارميه :"إن حرفتكم حرفة مضنية. أنا لا أستطيع أن أقول ما أريد ولو كنت مليئاً بالأفكار".
وبالتالي فالفضاء الجمالي الذي تنتجه "اللغة التخيلية"، ليس من باب الثمالة الجمالية شعرياً أو التجميل اللفظي والتخيلي فقط، فذلك المنحى هو انعكاس لـ"وشاكة إنمحاء الفطرية في عالمنا المعاصر بسبب ماديته وآليته وتعقيداته"، فتلك القيم السائدة في عالمنا هي قيم مادية صلبة لايمكن مقاربتها إلا بلغة إخبارية كونها قيم كمية، وليست قيماً روحية متجاوزة تجب مقاربتها بلغة تخيلية، لذا أصبح التخيل والمكاشفة اللغوية تعويضاً جمالياً قيمياً وروحياً.
حيث يفسر السياب هذا التوجه الشعري الحديث للتخييل بتوظيف عديد الأدوات التخيلية، بأن القيم السائدة في عصرنا هي قيم ليست شعرية، وأن الكلمة العليا فيها ليست للروح بل للمادة، لذا "فالتعبير الماشر عن اللاشعر لن يكون شعراً".
فالشعر –وكذا بقية الفنون- الذي يعتمد التخييل في اللغة، يؤسس لدرامية تخفف الغنائية الشعرية، وللترمي الذي يمنع سقوط النص في المباشرية والوضوح الساذجين، فيما يعد انعكاساً فكرياً لعصور الانحطاط الفكري والتأملي. وبالعودة لفكرة "الفناء"، لا بد لنا أن نتذكر المقولة الصوفية: "تمام الشيء مبتدأ نقصانه"، فيبدأ "التكون" حينها مع تمام –أو قرب تمام- "الفناء"، أوليست تلك خاصية الأنثى بامتياز؟ فهي التي تمنح الحياة من الموت، ويتكون الخلق فيها من صميم الفناء أو على شفيره، وتتجدد الحياة من مواثيق الفناء في الجسد الأنثوي.
ولكن كيف لذلك أن يكون شعراً ، و قد إنتهى عصر "ربة الشعر" فصار "شيطان الشعر"؟ أوليس "الشعر جمل بازل" والجمل البازل هو الفحل المكتمل، فكان "إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فإذبحوها"، كما قال الفرزدق في إمرأة قالت شعراً؟
لعل تلك الحاجة إلى تأنيث الشعر ملحة في عصرنا، لإكمال التحرر الشعري واللغوي من السيطرة الذكورية عليه كنسق حي ومؤثر ثقافياً وحضارياً، لم نر فيه بعد الخنساء شاعرة لمدة تربو على الـخمسة عشر قرناً من الزمان، وإن كانت الخنساء محض انتصار ذكوري شعري –كما أسلفنا سابقاً- ، بكت باستخدام الشعر الظل الذكوري الذي أبت الثقافة الذكورية الفحولية البدوية أن تخرجها منه إلا بموت صاحبه صخر.
فالشعر "ساحة تستوعب مايطرح من المسائل الفلسفية وقضايا اللاهوت وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا فضلاً عن السياسة والأسطورة والتاريخ" وبالتالي فهو – الشعر- "خطاب معرفي حقيقي". باعتبار ضرورة الربط بين الشعر والفكر والفلسفة، بما لا يمكن فضه، لأن ذلك "لايناقض العامل الحضاري وحسب، إنما يناقض إلى ذلك معنى التجربة الشعرية" والتجربة الشعرية هي في ذاتها متجاوزة لذات الشاعر/الرائي إلى نبوءة تتعالى عن شخصه إلى كامل شرطه ومحيطه الحضاري مكوناً الذات والآخر أياً كان الآخر : محيط ، كون، إله... وأنثى.
إن في ذلك التحدي الكبير حضارياً وتاريخياً فيما يتعلق بالشعر ولغته، هو ما جعل الثقافة بنسقها الذكوري تكشف عن أنيابها إزاء أهم مسّ أنثوي تحرري ثوري شعرياً، جعل من الكوليرا التي أصابت مصر عام 1947 ، أقل كثيرا من تلك "الكوليرا" التي أصابت عامود الشعر الفحولي على يد نازك الملائكة في متن فعلتها الشعرية التي كانت تحت نفس الغسم في نفس العام.
فقد حرضت "الملائكة" في شعرها على الثورة، و"الشعر محض ثورة"، فأججت في بحور الشعر عاصفتها و ثورتها، وأغرت بحوراً ثمانية من بحور الشعر بالإنقلاب والإنضمام تحت رايتها المؤنثة، لتروض في الشعر "شيطانه الذكر"، ليخرج التأنيث من عتمة الحكي إلى نور الكتابة، ولينكسر عامود الشعر الفحولي، ليمسي الشعر"حرية" وليس فقط "حراً".
تلك البحور الثمانية التي استجابت لنداء "الملائكة" هي "الرجز" و"الكامل" و"الرمل" و" المتقارب" و"المتدارك" و"الهزج" وإنضم إليهم "السريع" و"الوافر"، طاعنين بالاقحوان منابع الأشكال حيث الحضور الأصم الثابت ...الذكر.
كيف للغة الشعرية أن يكتمل صلصالها التخيلي/الكشفي من دون تلك البحور الثمانية التي تحمل صفات الجسد المؤنث، تلك الصفات التي تشترط الحياة ومنحها من حدود "الفناء" و"النهاية"، فكل تلك البحور مرآة للجسد المؤنث، مرنة تزداد وتنقص حسب شروط الحياة المتوالدة أقحواناً في متونها وأرحامها، بإنبثاق جسد من جسد ومعنى من معنى وصوت من صوت، ثم يعود ليتقلص فيلعو فيه "النبر" و"النزف" دونما أن يفقد حياته. إن تلك البحور الثمانية التي إنضمت لحملة "الملائكة" وثورتها على سلطة العرش/الذكر وكأي ثورة لابد لها أن تنطلق شرارتها من الشعب، فكانت تلك البحور"الأكثر شعبية وتواضعا وقرباً للناس ومنهم وإليهم، وفيها البساطة والليونة والخفة".
أما البحور الأخرى، فهي بحور الفحول، بها من سمات الفحولة جهوريتها وصلابتها، واستوثاق تقاسيم الذكورة الجسدية واضح فيها، فهي لا تقبل التمدد ولا التقلص، فلغتها الشعرية ذكر فحل، "وكونه عموداً صلباً راسخاً لا ينزف ولاينتفخ".
"مزجت بين النار و الثلوج –
لن تفهم النيران غاباتي ولا الثلوج
وسوف أبقى غامضاً أليفاً
أسكن في الأزهار و الحجاره
أغيب
أستقصي
أرى
أموج
كالضوء بين السحر و الإشارة"
أدونيس – "الإشارة" من ديوانه "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل"
إن تحالف "الملائكة" مع النصف المؤنث من بحور العروض، هو عين الثورة وإعلان الرفض الحاسم، على النسق الذهني المذكر الذي يعتمد عليه الشعر، ومحاولة تكسير العمود الذكوري في الشعر الأقرب للفكرة الأداتية للقضيب. وقد كان للملائكة ما أرادت، وهو مايعد انتصاراً للقصيدة الحديثة يسمح لها بأن تتجدد وتتحرر وتنعتق، فكان ماسمته "الملائكة" "الشعر الحر"، و إن كانت قد أسمته -هي نفسها- في مواضع أخرى "شعر السطر الواحد"، وهو مايستدعي في أذهاننا تفسيراً لقلة التوجه الشعري إلى "التشطير" حتى ولو بداعي "التقسيم الموسيقي الداخلي"، لما في ذلك من إعلان هزيمة ذكورة أمام البنية الذكورية المهيمنة.
إلا أن كل تلك المسميات –"الشعر الحر" و"شعر الشطر الواحد"- وماتلاها من مسميات لنقاد آخرين – ذكوراً كانوا أم إناثاً- ليسوا إلا محض انتصارات للنسق الذكوري للشعر ، صاحب السيطرة الثقافية، إما عن تواطؤ أو عدم دراية ، فـ"كثيراً ما يكون الإسم ظالماً لمسماه ، أو ملقياً عليه ظلالاً من الشبهات وخاصة إذا كان هذا الإسم وصفاً، لأن الصفة عندئذ تستدعي نقيضها، كما يستدعي البياض ذكر السواد. وعندئذ تلتمع المقارنة ولا ينال الإسم رضا سامعيه إلا إذا اتضحت المناقضة ايما اتضاح وثبتت أشكالها و ألوانها".
إلى أن ولدت تسمية "شعر التفعيلة" ، بعد خمسة عشر عاماً على المؤنثة على إسم يؤنثها جزءاً من حقها، ليظل الأصل المذكر والفرع المؤنث.
"الطرق كلها هكذا: مشقات في ترجمة السوسن إلى لغة المنثور".
سليم بركات – "السيل"
"فاينيموينن العجوز الأمين
كان يصنع بالغناء قارباً،
وهو يدق على صخرة،
كانت تنقصه ثلاث كلمات،
لكي يصنع جانبي القارب،
فذهب في طلب الكلمات"
من أشعار الملاحم الكاريلية القديمة في روسيا.
وإن كان البعض قد زعم أن الحداثة العربية قد انحصرت في الشعر فقط كما فعل أدونيس وإحسان عباس، وأن لا حداثة في غيره من أنواع الخطابات الثقافية الأخرى، فتلك نظرة تقوم على فصل الخطاب الشعري والقذف به في الفراغ مجرداً من أي إتصال مع أي نسق ثقافي وحضاري آخر للأمة، وهو ما نراه مجانباً للصواب بقدر غير يسير، فالتأنيث في الشعر وما أحدثه ذلك في الجسد الشعري العربي من تحرر وإنطلاق، كان الحلقة الوسطى بين محركات إبداعية ذاتية نبعت عن أكثر صور الذات العربية تعرضاً للقهر والقمع في مجتمعاتنا وصولاً لأنساق سردية وموسيقية وصوتية وبنائية جديدة، هي تمهيد لبعث الروح التحديثية في أجناس فنية وأدبية أخرى كالرواية مثلاً، حيث الراوي أصبح خالقاً لعشيرة متخيلة عبر السرد الحر، متنقلاً بشكل أرحب في وسائط سردية لايمكن إلا أن نلاحظ الفارق بين هياكلها ماقبل وما بعد حادثة تأنيث "الملائكة" للشعر، "إن تجربة القصيدة لحرة علامة كاشفة على حالة الاتصال و الانفصال، التكرار والاختلاف، وهي مسعى لابتكار الذات نموذجها الخاص معتمدة على المنجز القائم الذي لم تسع إلى إلغائه ولكنها أقدمت على تفكيكه ففتحت بذلك منافذ لها اقتحمت عبرها أسوار النموذج مما فكك المعيار الرسمي ومكن الذات المبدعة من التغلغل إلى الداخل ومن ثم إعادة إنتاج الموروث وإعادة تكوينه".
لذا فليس من الصحيح المصادقة على أن الحداثة العربية اقتصرت فقط على الشعر، وذلك لأن التحول في البنية الشعرية وإن لم يصل لتمام التحول في البنية اللغوية المنطقية للأمة –وإن بدت مظاهره واضحة في بعض المواضع- هو تحول في أكثر الفنون اللغوية تأثراً و تأثيراً فيما يسمى بالزمنية الجامعة –بحسب بندكت أنردسن- لجماعة ما بعينها.
إذ أن ذلك التحول، ترك آثاراً عدة، أهمها سؤال الهوية وعلاقتنا بالآخر من ناحية والبدايات من ناحية أخرى، وكذلك مواثيق إدراكنا لذاتنا تاريخيا، عبر القراءة من الطرف للمركز وليس العكس كما يذهب إلى ذلك هومي بابا، تلك القراءة التي ينبع منها الخطاب السلطوي.
"النقد ونقد الذات تحديداً ومسألة المنجز التاريخي، مع السؤال عن دور الذات المفردة وعن موقعها في النسق الثقافي و في نظام العشيرة، وهذه أسئلة موجودة في كافة الأفعال الثقافية. ولقد كان جواب الشعر عليها هو الأبرز لأن الشعر هو أبرز ما في ثقافتنا وهو الوجه المكشوف دوماً لنا". ويسجل لحركة "الشعر الحر" أو "شعر الشطر/البيت الواحد" أو "شعر التفعيلة" أنها كانت السباقة لطرق باب "المحرم" و "الممنوع" في الذهنية الثقافية وتفكيكه، وهو –التفكيك- المصطلح الذي يهابه الكثيرون من أصحاب عقلية الإتباع والأصولية وغيرها من الأنساق الذكورية التي تتمركز حول الذات فقط ، ولا تعطي مجالاً للآخر كما تفعل الأنوثة في أعلى تجلياتها المانحة للحياة على حافة "الفناء"، "إستجلاءاً" و "كشفاً" للوجود الإنساني في هذا الكون.
هكذا تولد الكلماتُ . أدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...
صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتانِ :
أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ
م.درويش – "لاعب النرد"